الثلاثاء، 12 ديسمبر 2023

لذة ألم النهايات...


في غمرة الروتين القاسي، والأيام التي أصبحت تتكرر بنفس التفاصيل الرمادية، والساعات التي حفظت ترتيب أحداثها عن ظهر قلب، والدقائق التي أكاد أجزم أنني أصبحت أسمع صوت دقات الساعة كلما أشارت إليها مُعلنة مرور لحظة رتيبة أخرى من حياتي، والثوانٍ التي تمر سريعاً، لكنها مُجرد مقدمة لما هو أبطأ وأقل حماسة وشغف، لطالما أحببت النهايات، لطالما شعرت وكأن لها رائحة خالصة، عبق ينتشر في الأرجاء بمجرد اقتراب حدوثها، شرارة ملتهبة تملأ الدنيا نوراً يُضيء قتامة الأيام، وتُلون الحوائط الرمادية العابسة التي تُحيط بها من كل جانب، شرارة يُمكن أن توازي في حِدتها شرارة الحب من النظرة الأولى والنجاح ببراعة ونَجابة. شرارة لطالما لهثت ورائها بأنفاس متلاحقة وخطوات مثقلة تأبى الانصياع لي، حتى وإن رجوتها كثيراً أن تستمع لحديثي، لكنها لطالما أعلنت تمردها وعصيانها علّي، ويبدو أنها كانت مُحقة…


منذ نعومة أظافري وأنا أتساءل ماذا بعد؟، لطالما شاح بصري تجاه النهايات، الأحداث الأخيرة وصافرة النهاية ولقطة غلق الستار، لم آبه كثيراً لكنز الرحلة ومتعة الوصول، لكنني كنت دائماً أنتظر تتر النهاية، تلك اللحظة التي ينكشف فيها كل شيء، تُضيء المنطقة الرمادية في عقلي، وتنحل عقدة تفكيري، وأصل إلى نهاية المتاهة بعد ساعات من الطواف اللانهائي في تعرجات الطريق. أثناء انتظارها يمر كل شيء سريعاً من حولي، الأحداث، الأيام، الساعات والدقائق، أحاول أحياناً أن أشير إليها بالتوقف، أو أمنعها حتى بالقوة، لكنها تأبى الانصياع لي، ترفض نداءاتي وتُقيد خطواتي، وتفضِّل السير.


هل كُنت أستمتع بذلك؟ سأكذب إن قلت لا، بالطبع كنت أستمتع أحياناً، لكنها كانت متعة لحظية تتوارى سريعاً لدرجة أنك تشعر وكأنها سراب عات يحسبه الجوعان زاد والظمآن ماء، مجرد أطياف أحلام زائفة لا تلبث أن تتبدد مع هبوب الرياح العاتية، بل وتفّر مسرعة لتختبئ خلف ستائر الواقع وجدران الحقيقة، سراب لطالما لهثت وراءه مليّاً، عكر صفو رحلتي وخطف الألوان من لوحة أيامي، حاولت كثيراً عرقلته وتعطيل مساره، لكنني أخفقت وعجزت وفشلت.


أشاهد فيلماً جديداً يُعرض لأول مرة في السينمات، وفي لحظة واحدة لا تكاد تقاس بالزمن يُسيطر الذهول والحماس على المشاهدين من حولي، الأعين تترقب، القلوب تنبض بسرعة خارقة حتى تكاد تسمع أصواتها وكأنها طبول الحرب معلنة أن لحظة المعركة على أهبة الوصول، بينما كنت انا على الجانب الآخر محرومة من لذة الانتظار ومتعة الترقب.


بمجرد انطلاق صافرة البداية تتجمد الصورة من حولي، وأشعر وكأنني أجري في متاهة كُبرى ألاحق شبحاً مجهولاً لسنوات طويلة، جبال الثلج تُطبق على صدري، ويشتد وقع أنفاسي، يمر عليّ الوقت متثاقلًا، أتمنى لو استطاعت عقارب الساعة أن تفرض سطوتها لتمر بانسياب تام، الأنفاس تتسارع كلما مر الوقت، أشعر بالتعب والثقل وأنا لم أبرح حتى مستقري، أرفع بصري كل دقيقة لأنظر إلى ساعتي التي تكاد تصم أذني بدقاتها، يتوه عقلي ويهيج ساكني، وتضطرب أعصابي أكثر وأكثر إلى حين قص شريط النهاية وعودة إيقاع الحياة إلى طبيعتها، فتلهيني سعادتي ببلوغ النهاية عن رحلة شقائي في أثناء انتظارها.


هكذا يحدث الأمر في كل مرة، أتحمس لوهلة وانزعج لدهر، انتظر تتر نهاية الفيلم الذي احترقت شوقاً لرؤيته، وصافرة نهاية المباراة التي أرجأت كل مواعيدي طوعاً لها، والفصل الأخير من الكتاب الذي دفعت ثمنه من مدخراتي، والساعة الأخيرة من رحلتي التي انتظرت شهوراً عِدة لحضورها، نهاية اليوم الدراسي وساعات عملي وحياتي برُمتها، طالما كانت هنالك نهاية من الأساس ستجدني هنا جالسة، متواجدة أتصبب عرقاً، وامتعض امتعاضاً شديداً يكاد يخرق حجاب قلبي…


لم أفق من غشيتي تلك، وأفهم مصيبتي إلا عندما أجبرتني الظروف على تكرار الفعل مرتين، وهنا كانت الصدمة أذهب إلى مكان زرته في طفولتي لأكتشف أن الذكريات أصبحت سراباً، نعم أتذكر المكان، أتذكر جلوسي على الأريكة بجوار عائلتي واللعب رفقة الأقارب الصغار ممن كانوا في مثل عمري، لكن تلك الذكريات أصبحت أشبه بالمقبلات الجانبية، بينما الوجبة الرئيسية كانت رحلة عودتي إلى المنزل بعد انتهاء اليوم وجلسة الاستحمام وتغيير الملابس والنوم بثبات عميق من أثر الرحلة الطويلة، كان ذلك هو ما كان يحتل المشهد وكأنه الحدث الأساسي!، أشاهد فيلماً تابعته منذ فترة ليست بالقصيرة وبدلاً من تذكر أحداثه أجد نهايته الصادمة تزيح كل الأحداث جانباً وتهيمن على عقلي كلياً، اتابع أهداف مباراة قديمة وأجد نفسي تائهة في غمرة الأحداث التي حدثت خلالها وكأنني أراها للمرة الأولى، وهكذا صرت أفارق كل ذكرياتي واحدة تلو الأخرى مفجوعة برؤيتها تتبخر في الهواء وكأنها مجرد أضغاث أحلام تتبارى في الاختفاء أو كأنها لم تكن…


لم افهم ابداً سر هيامي بالنهايات، البعض اخبرني أنني ربما افتقد لشعور الصبر الذي يُجبر الجميع على ارتشاف كؤوس الانتظار بلّذة وشغف، فأنا لست هذا الشخص الذي قد يقضي ليلته في شرفته في ليلةٍ من ليالي الشتاء شارداً في أفلاك السماء يفيض بالأسرار للنجوم العابرة اللامعة ويُطارد بعينه النسور المُحلقة في تلك البقعة الزرقاء، إنما على النقيض فأنا أفضل مطاردة الحياة السريعة حتى وإن سبقتني كثيراً برتمها المتسارع، العبث مع الروتين بمرح ونشاط، ومضغ قضمات ضخمة بنهم من الساعات المتلاحقة التي تقطع أنفاسي من العدو ورائها دون أن اشكي هماً أو أندب حظاً، ربما كانوا مُحقين!


البعض الآخر برر أفعالي تلك بكون كل ما مررت ومازالت أمر به به لم يُثر اهتمامي من الأساس، لم يُجبرني على الالتفات له أو التلّذذ والهيام في أكناف خيالاته! لكن كيف قد يُصبح كل ما حولي يُثير ضجري، كيف يظلل السأم كل تفاصيل حياتي، ويُرسم الملل والتبرُّم مسار رحلتها... ربما كانوا مُحقين أيضاً.


ظللت أتساءل كيف أفقد شغفي بعد ثوان قليلة من ممارسة فعل "التأني والانتظار" مهما بلغت شّدة وحماسي وذروة حَميَّتي، كيف أصبحت ممزقة بين حياةٍ لم اتمناها وحياةٍ لا أعلم السبيل إليها، حياةٍ استثقل ظِلها وأخرى تفر من وجهي كل ليلةٍ ولا تريد فتح ذراعها إلي ابداً.


لم يجد الجميع من حولي الجواب، ولم أجده أنا ابداً، وهكذا بقيت أتجرع كل ليلة من كأس النهايات جُرَعاً مريرة، أحاول كبح جماح شهوة "حرق النهايات" تلك والاستمتاع بمسار كل شيء حتى وإن كان على سبيل الإدعاء، يفلح هذا مرات ويُخفق مرات أخرى عديدة، تمر الأحداث والسنوات من أمام عيني ولا ارتوي منها سوى قطرات النهايات التي تعلق بعقلي وتُزيح باقي التفاصيل بأكملها جانباً حتى تخفت رويداً رويداً ثم يتوارى أثرها تماماً وكأنها لم تكُن، تخونني ذاكرتي كثيراً ويعبث عقلي معي مئات المرات بينما انا ساكنة في العربة الأخيرة من القطار أرقب كل شيء بعين نصف مفتوحة غير مكترثة لكل ما يحدث حولي، فقط انتظر وصولي إلى المحطة الأخيرة من حياتي أو رحلتي…


لذة ألم النهايات...

في غمرة الروتين القاسي، والأيام التي أصبحت تتكرر بنفس التفاصيل الرمادية، والساعات التي حفظت ترتيب أحداثها عن ظهر قلب، والدقائق التي أكاد أجز...